من خلال متابعة كلمات الفقهاء وآثارهم يمكن رصد مبنيين في فهم الأحكام الشرعية والاجتهاد فيها، سنصطلح على الأول بالمنهج التجزيئي وعلى الثاني بالمنهج الموضوعي إذا جاز وصحّ مثل هذا الاصطلاح.
وقد اختار بعض الفقهاء المنهج الأول في التحقيق والاجتهاد؛ واكتفوا على أساسه بدليلٍ واحدٍ تام سنداً ودلالةً لإثبات الحكم، وإذا ما تمسكوا بعدة أدلة فليس النظر إليهما بعنوان دليل واحد مجموعي، بل لكل واحد منهما استقلاليته، وقلّما لحظوا هذه الأدلة وما تثبته من أحكام في سياق انسجامها مع منظومة المعارف الدينية بشكلٍ عام، أعني معارف العقيدة والأخلاق والفقه بعنوانه الواسع؛ إذ تتلخّص آلية هذا المنهج في البحث في كل فرع فقهي عن آية أو رواية معتبرة تدل على المطلوب، وفي حالة عدم وجود أو عدم دلالة ما وجد على ذلك تصل النوبة إلى تعيين الوظيفة الظاهرية بأحد الأصول العملية، رغم إمكانية التوصّل إلى حكم واقعي بملاحظة منظومة المعارف الدينية، والأحكام المرتبطة بهذا الفرع وأطره العامة.
وأختار قسم من الفقهاء المنهج الثاني؛ فمع قبولهم بالمنهج الأول في بعض الموارد، إلا أنه لم يقبلوه بشكل دائم وفي جميع المسائل، وركنوا إلى منهج آخر عبّرنا عنه آنفاً بالمنهج الموضوعي؛ ففقيه هذا المنهج قد لا تستند بعض فتاواه إلى دليل خاص بعينه كما في المنهج المتقدم، بل مستندها يحصل من تتّبع مجموع المتون الدينية، ومن خلال المقارنة فيما بينها، بل قد لا يكتفي بهذا القدر أحياناً، فيلحظ الأطر العامة للتعاليم الدينية ومنظومتها وأهدافها، من عقيدة ومن أخلاق ومن فقه لاستنباط بعض الأحكام الدينية؛ وذلك لأن الدين هو مجموع هذه التعاليم ولوحته المتكاملة، والعلاقة التي تحكم هذه التعاليم وأجزائها وثيقة ومترابطة، ولا يمكن النظر التجزيئي إلى بعضها وإهمال بعض آخر.
قلت: لا يدعّي هذا المنهج بأنه ما توصّل إليه هو من خارج رحم النصوص الشرعية، بل هو وليد منها ومستند إليها؛ ولا يمكن لأحد أن يدعّي بأن جميع النصوص الشرعية ذات فهمٍ واحدٍ لا يمكن أن يتعدّد؛ بل من حقّ أي مجتهد ـ يمتلك المقوّمات والأسس السليمة لذلك ـ أن يقدّم فهماً للنصوص الدينية، لكن يبقى هذا الفهم في إطار الاحتمال ما لم يقم البراهين والشواهد لإثباته.
أضف إلى ما تقدّم: إن النظرة الشمولية للدين ومدخليتها في الصناعة الفقهية ليست غائبة عن نصوص أساطين هذا الفن وعلمائه، قال شيخ الأساطين في كشف الغطاء:
قد عُلم بالبديهة أنّ المدار في طاعة العبيد لمواليهم وسائر المأمورين لآمريهم على العلم بمرادهم إمّا: تصريحاً؛ أو من تتبّع أقوالهم؛ أو أفعالهم؛ أو ما يقوم مقامه من مظنّةٍ عهدوا إليهم في اتّباعها، والعمل بها. فلو تعلّق حكم بشيء وعُلمت أولويّة آخر من داخل أو خارج، أو ظُنّت من داخل، فيكون من المفاهيم اللفظيّة، أو عُلمت مساواته أو ظنّت من داخل كذلك كان مثبتاً لحكمه، فالأولويّة بقسميها، وتنقيح المناط، ومنصوص العلّة، لا ينبغي التأمّل في اعتبارها. وكذا ما ينقدح في ذهن المجتهد من تتبّع الأدلّة بالانبعاث عن الذوق السليم والإدراك المستقيم؛ بحيث يكون مفهوماً له من مجموع الأدلّة؛ فإنّ ذلك من جملة المنصوص؛ فإنّ للعقل على نحو الحس ذوقاً، ولمساً، وسمعاً، وشمّاً، ونُطقاً، من حيث لا يصل إلى الحواس، فاعتبار المناطيق، والمفاهيم والتعريضات، والتلويحات، والرموز، والإشارات، والتنبيهات، ونحوها مع عدم ضعف الظنّ من مقولة واحدة؛ إذ ليس مدار الحجيّة إلا على التفاهم المعتبر عرفاً([1]).
ولم تتوقف المسألة عند هذا المجال، بل إن المطّلع على كلمات الفقهاء يجد بوضوح أن اختلاف المباني في عموم المنظومة الدينية سبّب ويسبّب الكثير من الاختلافات الفقهية؛ بدءاً من الاختلاف في عدد مصادرها وكيفية تفسيرها وانتهاءً بكيفية الترجيح فيما بينها.
ففي البحث الأصولي والمسلك الذي يختاره الفقيه في عملية الاستنباط مثلاً نلاحظ الاختلاف في كيفية تفسير المتن واضحاً، فبينما ذهب فريق إلى عدم انحصار دور تفسير المتون الدينية بالمعصوم فقط، حصر آخرون ذلك به؛ ولم يقبلوا أي تفسير يُطرح لهذه المتون عدا التفسير الذي حمله الموروث نفسه، أو القواعد التي أسس لها، وأضاف آخرون القواعد العقلائية لذلك؛ كما اشترط البعض ملاحظة الظروف المحيطة بالنصّ وفضائه لاعتبار تفسيره، وأختار بعض عدم ذلك، إلى غير ذلك من المباني الأصولية.
أما ما يرتبط بالمسلك الرجالي في التصحيح والتضعيف فقد وقع الخلاف بين المباني وأثّر ـ بطبيعة الحال ـ على النتائج الفقهية أيضاً؛ فذهب البعض إلى أن وثاقة السند هي الشرط الحصري المصحّح لقبول الرواية، واكتفى آخرون بالوثوق بمضمونها كشرط لقبولها رغم ما قد يُرى فيها من ضعف سندي، كما عدّ البعض توجهات عقدية معيّنة سبباً مسقطاً لاعتبار الراوي ورواياته، وأنكر آخرون ذلك، ومالوا إلى أن ذلك غير مؤثر في قبولها، إلى غير ذلك من اختلافات رجالية عديدة.
كما أن المباني الكلامية أيضاً أثّرت كثيراً على النتائج الفقهية؛ فمن يختار بأن لمفهوم السنّة معنى عام وواسع يشمل جميع حركات المعصوم ـ الأعمّ من الرسول الأكرم أو الإمام عليهما السلام ـ يختلف في فقهه عن الفقيه الذي يفرّق في ذلك وينوّع أحكامها تبعاً لاختلاف مرتكزها الذي انطلقت منه؛ وأن فقه الفقيه الذي يرى بأن المرجعية السياسية للإمام أهمّ من مرجعيته الدينية يختلف في فقهه عن الفقيه الذي يرجّح مرجعيته الدينية على السياسية؛ كما ويختلف فقه الفقيه الذي يعتقد بسعة دائرة الأدوار الموكولة إليه في زمن الغيبة عن فقه الفقيه الذي يرى ضيق ذلك ويحصرها في الإفتاء والقضاء فقط.
وأخيراً: فإن الفقيه الذي يرى بأن الأصل في عموم الأحكام التي جاءت في القرآن والسنة هو التعبدية المحضة، يختلف في فقهه عن الفقيه الذي يرى انحصار ذلك في دائرة الأحكام العبادية، وإن الأصل في غيرها ليس كذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق