السبت، 28 أبريل 2012

صدر حديثاً كتاب (هل لخمس أرباح المكاسب أصل قرآني؟)


صدر حديثاً من مؤسسة الإمام الجواد عليه السلام للفكر والثقافة رسالة حملت عنوان (هل لخمس أرباح المكاسب أصل قرآني؟) وهي تقرير لأبحاث سماحة آية الله المحقق السيد كمال الحيدري الفقهية، وبقلم: الشيخ ميثاق العسر، وإليكم إيجازاً لما ورد فيها:
لا يشك أحد في إن أصل الخمس حكم قرآني ثبت من خلال قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، حيث أفادت أصل الحكم وبيّنت بعض مصارفه أيضاً.
وقد جزم جميع الفقهاء والمفسرون في دلالتها على وجوب الخمس في غنائم دار الحرب، ولا يوجد خلاف في هذا الحدّ من الدلالة بين أحد من المسلمين. لكن وقع الخلاف في دلالاتها الأوسع، فهل يقتصر الوجوب فيها على غنائم دار الحرب، أم إنه أوسع من ذلك؟
اتفقت كلمة المدراس الأخرى ـ غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام ـ على إن الآية لا تدل إلا على وجوب الخمس في غنائم دار الحرب حصراً، وليس فيها أي دلالة على أكثر من ذلك، نعم قد يجب الخمس في بعض الموارد التي أضافها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ونُقلت عنه، لكن هذا غير مستفاد من نفس الآية وحاقها، بل لأمور خارجة عنها.
أما مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد ذهب المشهور منهم إلى عدم انحصار دلالة الآية بما تقدّم، بل فيها مقتض للعموم والشمول لعموم موارد الخمس المعروفة.
إن سرّ الاختلاف في هذه الآية عائد إلى تحديد مدلول (غنمتم) الوارد فيها؛ فهو مردّد بين أن يكون المقصود منه خصوص غنائم دار الحرب، أو عموم ما يظفر به الإنسان من غير مشقة ولا تعب كما هو مفاد معناه اللغوي؟
تذهب عموم المدارس الأخرى وبعض علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى أن الآية مختصة بغنائم دار الحرب، ليس لكون مفهوم الغنيمة لغةً مختصاً بها، لكن شواهد وقرائن كثيرة دلّت على الاختصاص، منها ما هو داخل الآية، ومنها ما هو خارج عنها.
أما التوجّه المشهور لفقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد ذهب إلى أن الغنيمة في الآية عامة وشاملة لكل ما يظفر به الإنسان من غير مشقة ولا تعب، فيكون استعمالها في نفس الآية هو نفس المفاد اللغوي من غير توسعة أو تضييق؛ ببيانات متعدّدة سيأتي تفصيل الحديث فيها لاحقاً.
وهناك توجّه داخل مدرسة أهل البيت عليهم السلام يذهب إلى أن الإيمان بعموم الغنيمة لغةً واستعمالاً لا ينتج شمولها لأرباح المكاسب؛ لأن الغُنم لغةً يعني الظفر بالشيء من غير مشقة ولا تعب، وأرباح المكاسب ليست من هذا القبيل، بل تتلازم المشقة والتعب مع عموم أفرادها كما سيأتي الحديث في ذلك.
وفي هذا السياق يكون الخلاف على أرباح المكاسب جلياً؛ حيث قرّر المشهور من الإمامية وجوب الخمس في أرباح المكاسب استناداً إلى عموم الآية الكريمة؛ فهو غنيمة من الغنائم، في حين أنكرت المدارس الأخرى وبعض علماء مدرسة أهل البيت ذلك، وأدّعت اختصاص دلالة الآية بغنائم دار الحرب فقط.
لكن الذاهبين إلى الاختصاص من أبناء مدرسة أهل البيت عليهم السلام لا يفضي ذهابهم هذا إلى إنكار وجوب الخمس في أرباح المكاسب بالمرة؛ فإن ذلك إنكاراً لكثير من النصوص الروائية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام؛ بل إن أصل وجوبه ـ بأي نحو فسرنا الوجوب ـ لا خلاف ولا إشكال فيه في داخل هذه المدرسة رغم تنوّع اتجاهاتها.
في ضوء ما تقدّم نتساءل: هل إنّ خمس أرباح المكاسب هو نفس خمس غنائم دار الحرب سنخاً وحكماً ومصارفاً ومقداراً وثباتاً، أم هو ليس كذلك؟ وإن شئت قلت: هل الخمس نوعان أم نوع واحد؟
والجواب: إن المدعى الذي حُرّرت هذه الأبحاث على أساسه هو: إن خمس أرباح المكاسب يختلف عن الخمس الثابت في الآية الكريمة، سواء من ناحية سنخ الوجوب، أو من ناحية سنخ المصارف، بل وحتى من ناحية المقدار والثبات؛ وذلك لأن هذا النوع من الخمس ـ كما سيتضح لاحقاً ـ هو حكم ولائي صدر في ظل ظروف وشروط خاصة، والحكم باستمراريته منوط باستمرارية تلك الظروف والشروط، بخلاف الخمس الثابت في الآية الكريمة؛ الذي هو ثابت لا يتغيّر، لا حكماً ولا مصرفاً ولا مقداراً؛ لكونه جزءاً من الشريعة.
 أما المشهور فقد ذهبوا إلى أن الخمس نوع واحد لا خلاف في ماهية وجوبه بين خمس غنائم دار الحرب وبين خمس أرباح المكاسب، ولا في مصارفه ولا في مقداره ولا في ثباته؛ والجميع داخل في عموم الآية، بل نصّوا على أن لسان الدليل يأبى التفصيل المتقدّم، وسنفصّل الحديث في هذه الاختلافات في بدايات الحلقة الخاصة بخمس أرباح المكاسب وماهية وجوبه التي ستأتي لاحقاً؛ لنرى بأن لسان الدليل يساعد على ذلك أم لا؟
وعلينا بدايةً أن نستبق تقرير النتيجة التي يختارها هذا البحث استبعاداً لأي التباس قد يحصل من خلال قراءة عنوانه؛ إذ يذهب أستاذنا السيد الحيدري دامت إفاضاته إلى إن خمس الأرباح خارج خروجاً موضوعياً عن الخمس الثابت قرآنياً، بل هو حكم ولائي صدر من الأئمة المتوسطين والمتأخرين عليهم السلام، كضريبة مالية اقتضتها ظروف وشروط معيّنة، والقول باستمراريتها إلى عصر الغيبة منوط بتوفّر تلك الظروف والشروط، وتشخيص ذلك عائد إلى مراجع الدين، والذين أوكلت إليهم صلاحية تقرير الأحكام الولائية في عصر الغيبة، فهم حجة الله على العباد، والإمام حجة الله عليهم كما جاء وصفهم في التوقيع الشريف، وتفصيل الحديث في هذا البحث موكول إلى الأبحاث اللاحقة.

الجمعة، 27 أبريل 2012

مطارحات في العقيدة/ مقامات السيدة الزهراء وظلامتها ق3

الاطروحة المهدوية/ مقامات الزهراء (ع) وظلامتها القسم2

مطارحات في العقيدة/ مقامات السيدة الزهراء (ع) وظلامتها

العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة التأصيل العقائدي نموذجاً (2)


العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة
التأصيل العقائدي نموذجاً (2)
الشيخ ميثاق العسر
التغيير على مستوى الخطاب
الخطاب يتلون تبعاً لمستوى المخاطب، فما يُخاطب به الجمهور ينبغي أن يكون بسيطاً ساذجاً؛ كي يفهمه بسلاسة دون تعقيد، كما أنَّ الخطاب التخصصي يمتاز بلغة خاصة لا يعرفها إلا أصحابها، مع ضرورة الحفاظ على وحدة الخطاب النوعية بمقوماتها الذاتية.
إنَّ التأسيس للمشتركات الأبستومولوجية أحد أهمّ العوامل التي ينبغي أن يُؤسس الخطاب السليم عليها، فما لم يُؤسس لمشتركات بين الأنا والآخر ـ تجعل الأنا يقبل من الآخر وكذا العكس ـ لا يمكن أن يصاغ خطاب صحيح على الإطلاق، وتبقى الحوارات تدور في حلقة فارغة، فهي أشبه بالجدل المعلوم النتائج مسبقاً.
وجراء عدم وجود التأسيس الابستومولوجي الصحيح لم نلحظ اهتماماً من العلامة الحيدري للدخول في جدل أو حوار طائفي أو ما شابه ذلك؛ لعدم اعتقاده بوجود المشتركات المعرفية أصلاً، أو وجودها مع تعدد الأفهام المتغايرة فيها، فيؤمن كل طرف بجواز الاستناد إلى ما لا يعده الطرف الأخر مرتكزاً سليماً يصح الاستناد عليه.
هذا الأمر يؤدي إلى حوار فارغ لا يولّد سوى البغضاء والشحناء بين الأطراف، وليونة عريكة أي طرف لا تؤدي بالحوار إلى نتائج موفقة. والحوارات الدائرة بين الأطراف دون هذا التأسيس المعرفي بين يديك للمحاكمة.
المرحلية الخطابية عامل أساسي آخر في خطاب الحيدري، فقد رحل الزمن الذي كانت تقتصر مفردات الخطاب فيه على المفردات التاريخية والاجتماعية والتربوية والنفسية، بل يرى الحيدري ضرورة صياغة خطاب تشكلُ مفرداته من البحث العقائدي أولاً ـ بعد التأسيس للمشتركات الابستمولوجية ـ ومن ثمَّ الانتقال إلى المفردات الأخرى. فما لم يضمن المخاطِب استعداد مخاطَبِه لتقبل ما يقول يضحى خطابه مع كل مفرداته عبثاً لا طائل من وراءه.
لقد بقي خطابنا الشيعي ـ على المستوى العقائدي بشكل خاص ـ يراوح مكانه دون أخذ المرحلة وتطور أفرادها بعين الاعتبار، إذ بقي بتلك اللغة القديمة المؤثرة في زمانها لتناسبها معه، من غير أن يعكف لتأسيس خطابٍ جديدٍ يتناسب مع هذه المرحلة، ويأخذ بعين الاعتبار الاستحقاقات الملحة التي تطرأ وتفرض نفسها كإشكاليات تستدعي الحلَّ المناسب لها.
إنَّ فكرة التعذر من عدم طرح الخطاب العقائدي السليم بدعوى أنَّ ذلك إسفافاً لا يفهمه الجمهور خاطئة ـ في رأى الحيدري ـ ، فقد كنا ولا زلنا وجلين من طرح الخطاب العقائدي المؤَسس ـ وفقاً لثوابتنا ـ خوفاً من المحاذير المتقدمة حتى بدأت القواعد تهتز واحدة تلو الأخرى، جراء عدم التعبة والتأسيس الصحيح.
من هنا فلم يوجّه العلامة الحيدري خطابه للجمهور بالدرجة الأولى، بل وجهه لذوي الاختصاص الذين ينبغي عليهم معرفة عمق منهجنا وعمق مفرداته، فالمرحلة تقتضي أن يفهم الآخر فكرنا وثوابتنا، فيفهم الحقّ والحقيقة من دون لبس ودغش.
تأسيساً على هذا، رأى الحيدري ضرورة التشكيك الخاصي في الخطاب، يعود ما به الامتياز منه إلى ما به الاشتراك، ففي عين الوقت الذي يُمارس فيه (X) خطاباً عقائدياً يتناسب فهمه مع طبقة خاصة دون أن يفقد حالته الخطابية الواحدة، يمارس(Y)  أيضاً خطاباً عقائدياً أعلائياً يتناسب مع طبقة أعلى، مراعين في ذلك روح هذا الخطاب الواحدة منهجاً ومفرداتً..
وخروج العلامة الحيدري على الفضائيات والإذاعات المحلية والدولية يعتبر ترسيخاً لهذه الضرورة، حيث قام بطرح خطابه العقائدي الأعلائي إلى المتخصصين؛ ليعرفوا عمق ما توصلت إليه مدرسة أهل البيت ‘في مثل هذه الميادين. على أنَّ هذا اللون من المنهج الخطابي يحتوي على مضار متعددة علينا ملاحظتها.
نحن بأمس الحاجة ـ والكلام للحيدري ـ في الوقت الراهن إلى أهل تخصص في الحقل العقدي، يبعدون من لا علم له ولا معرفة من الحديث في أبواب هذا الحقل، ويؤول الناس إليهم عند كل شاردة وواردة في هذا المجال، بذلك نحافظ على الإيمان والتثبت المطلوب في أصولنا العقائدية، مدللين على ذلك بوجوهٍ مبرهنة لا مرية فيها.
أما إذا ترك المجال مفتوحاً ـ كما هي بوادره في الوقت الحاضرـ لكل من هبَّ ودبَّ، فسوف تعيش الأمة ضياعاً منقطع النظير، لا تجد ركناً وثيقاً تؤول إليه إلا الادعاءات الفارغة التي تتمسك ببعض الأمور الخرافية الباطنية غير المدللة، وهذه نهاية محتمة للعلم والقول الصحيح.
استخدام المنهج والمفردات السليمة آية كل مختص يريد الدخول للبحث العقدي ليؤسس خطاباً موفقاً اجتهد في مبادئه، وله حق الدفاع عنه عند الاحتكام. فلكل باحث حق الدخول في هذه الميادين، شريطة أن يمتلك أدوات معرفية سليمة يفهم أفقها، ويجيد استخدامها في تحصيل الموقف العقائدي السليم.
ملاحظات ختامية
لعل من أهم الأسباب التي حدت لعدم تطور البحث العقدي هو فتوى الفقهاء الشهيرة بعدم جواز التقليد في أصول الدين، فقد أبقت هذه الفتوى الجمود يعشعش داخل المعرفة العقائدية، وبالرغم من كثرة التساؤلات التي تطرحها الأمة، إلا أنَّ الإجابات عليها ضلت يكتنفها المزيد من الغموض في التأصيل والتقعيد.
تأسيساً على ما تقدم نرى: بأنََّ الدعوة لإجازة الرجوع إلى المجتهد العقائدي الجامع للشرائط ضرورة ملحة سوف تلقي بظلالها المعرفية على كثير من الحقول الفكرية الأخرى، وتساهم بشكل وبآخر في تطوير عديدٍ من  القطاعات العلمية.
لعلنا لا نجازف إذا ما قلنا بأنَّ كتابة رسائل عملية عقائدية مفهوم ينبغي أن يدخل حيز المفكَّر فيه، ليتم الانتقال به ـ بعد ذلك ـ إلى حيز التنفيذ، وفقاً لضوابط المنهج التي دعا الحيدري إلى إرسائها.
إنَّ صدورنا تتسع لسماع أي إثارة وتساؤل في كل حقول المعرفة العقائدية، شريطة أن تتحلى هذه الإثارات والتساؤلات بروح البحث المعرفي الخالص، بعيداً كل البعد عن روح الإثارة لأجل الإثارة فقط، من غير أن يكون هاجس التأصيل النظري هو المقياس الذي تُطرح هذه الأمور على أساسه.
إننا إذا أردنا أن نعطي براءة نية للاستيضاحات المعاصرة التي تطلق من خارج حريم الدائرة الواحدة، فإننا لا يمكن أن نعطي براءة ذمة للاستيضاحات الداخلية التي تنطلق على شكل تساؤلات يُراد لها التأثير على واقع الأمة العقائدي، دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة حصرها بين المتخصصين؛ كي يجدوا الإجابة الشافية لها.
إنَّ فتح الباب أمام المراكز العقائدية المؤسَّسة للعمل المنظم ـ وفقاً للمنهج المزبور ـ كفيل بإيصاد الباب أمام طرح مثل هذه الإثارات غير المبرّرة. إثارات تريد الوقيعة بين أبناءنا الذين تعمقت العقائد في أفكارهم، ولا سبيل إلا للمعرفة والعلم الصحيح لاقتلاعها.
إننا نتطلع لرؤية اتساع رقعة تطبيق هذه الدعوة إلى جميع زوايا البحث العقدي ومرتكزاته، وتحديدها ـ عملاً ـ بزاوية واحدة أو زوايتين لا يوافق عليه البحث المعرفي، فإنَّ تمامية أي نظرية منوطة بإعطائها الحلول المناسبة لكل الإشكاليات.
كما نتطلع أيضاً أن نشاهد علم أصول الاستنباط العقائدي مكتوباً ومحرراً بقواعد مبرهنة في القريب العاجل بإذنّ الحكيم المتعال، نسدُّ بذلك باب التخبط العقائدي الذي بدأ يدبُّ في جسد أمتنا ـ جراء عدم وجود التأسيس المعرفي الصحيح ـ  لاستنباط الأحكام العقائدية، وضرورة حصر هذا الاستنباط بأيادي المتخصصين.
لا ننسى أن نؤكد في نهاية هذه الأسطر بأنَّ الدعوة التي بدأها علامتنا الحيدري لن يُكتب لها النجاح الكامل ما لم تستطع إبراز التبرير المعرفي لمنهجها ومفرداتها وخطابها، ومن غير إبراز هذا التبرير تمسي عملية التبشير لها والدعوة إليها خالية من التنجيز والتعذير الموضوعيين.
وأخيراً ونحن قد طرحنا عنوان التغيير كمحورٍ لبحثنا، نجد من الوفاء استذكار الروح التغييرية للفقيه الكبير، والراحل الشهيد السيد محمد باقر الصدر +. لقد حملت هذه الروح التغيير  في ثناياها خشبةً تبحث عن من يصلبها عليها، وشاءت الأقدار أن تطال يد الغدر والخيانة روح الراحل الشهيد، فكان بحقٍ شهيد التغييِّرين.

العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة التأصيل العقائدي نموذجاً(1)


 الشيخ ميثاق العسر
التغيير ظاهرة ليس لها كينونة وتقرر بدون المغيِّريين، فهم الذين يمررون أسم التغييرية على المرحلة؛ وذلك بجدارة أفكارهم التي تتخطى السائد لتطرح شيئاً ليس بسائد، ويُؤسس من خلال تلك الأفكار لمرحلة جديدة دون النيل من مناهج المرحلة السابقة، بل يبقى للمتابع حق التقييم، وحق الاستبدال.
من بين هؤلاء الذين يستحقون هذا العنوان هو: العلامة الأستاذ السيد كمال الحيدري، فقد بدأت جهوده تتضافر حينما انطلقت مرحلة الاستحقاق التغييري لتنادي المبدعيّن والحركيين؛ لوضع لمسات التغيير والسير على خطاها. لقد وعت جهوده هذه المرحلة خير وعي، فكان بحقٍ أحد رواد هذه المرحلة التأسيسيين في الحوزة العربية، واحتذى حذوه العديد من أساتذة ومتابعي هذا القطّاع.
لم تقتصر جهوده التغيرية على المنهج، بل تجاوزته إلى المفردات والخطاب، فقد وعى مكمن المشكلة، فجاء الحلُّ السليم، لكن علينا تفحص الإبداع التغييري في طرح العلامة الحيدري؛ لندلل على الدعوى التي صدّرنا بها مقالتنا، وسوف نقتصر على ملامح التأصيل العقائدي في فكره كنموذج للتغيير، وعليه فسوف نقسم ذلك إلى قسمين متناولين كل واحد منهما بالعرض والتحليل:
(1)
التغيير على مستوى المنهج
المنهج صراط الذين لا يريدون للفوضى الدخول إلى حريم العلم، فـدون هذا الصراط تضحى المعرفة خالية من الانسجام والترابطية، وبالتالي تفقد الإلزام الذي تصبو إليه. وتأسيساً على هذه البديهية المنهجية يتضح بأنَّ الفشل سوف يكون حليف أي باحث يريد الولوج لأي حقل معرفي دون منهج.
لنأخذ البحث العقائدي نموذجاً، فما لم يتمسك الداخل فيه بمنهج قويم يتناسب مع موضوعه ومسائله لن يصل إلى نتيجة معرفية سليمة، بل يبقى سارحاً يتخبط التمسك بأي نتيجة دون تناسب مع مقدماتها، وهذا ما يلحظه المتابع من خلال قراءة لتراثنا الإسلامي العقائدي.
لقد وعى علامتنا الحيدري أهمية هذا الموضوع، فرأى بأنَّ الخلاص الوحيد من هذا المأزق هو التأسيس لمرجعية عقائدية متكاملة تتكفل مهمة التأصيل النظري لأصول البحث العقائدي وفق منهج لا يحتمل الخطأ عند ثبوت مقدماته، وتتحمل الإجابة على الاستحقاقات العقائدية الراهنة والمستقبلية، متجاوزةً مبدأ عدم جواز التقليد في أصول الدين لتطرح فكرة أخرى يجوز من خلالها التقليد في تفاصيل البحث العقدي، ويُحصر الاجتهاد في أسس أصوله.
لقد جاءت المهمة وعرة وصعبة؛ إذ أنَّ المشارب والمسالك تتفاوت منهجاً في دخولها لمثل هذه الأبحاث، حيث يجد المتابع منهجاً للفلاسفة، ومنهجاً للمتكلمين، ومنهجاً للمحدّثين، وكل منهج يختلف عن الآخر أي اختلاف، لذا جاءت صعوبة التحديد، لكن لما كان المنهج الفلسفي هو الأنسب والأفضل في رأي العلامة الحيدري أختط على أساسه مشروعه، فبدأ يؤسس ـ وفقاً لهذا المنهج ـ خطابه ومفرداته.
وقبل أن يدخل في تفاصيل ذلك كانت المهمة لتأسيس ضوابط وأصول تمثل ركائز لا يمكن للباحث تجاوزها وهو يريد الولوج في البحث العقائدي، فكما لا يمكن للفقيه الدخول في البحث الفقهي دون أن يتحصن بأدوات ومنهج البحث الأصولي فالأمر كذلك في البحث العقائدي، حيث لا يمكن الدخول فيه لأخذ النتائج من غير التحصن بقواعده، ويبقى المجال مفتوحاً أمام الباحث لاختيار المنهج الأوفق في رأيه لفهم المعطيات العقدية.
عندما يؤسس في أصول العقائد على جواز الاعتماد على خبر الواحد لإثبات فروع البحث العقدي فلا يمكن أن يعترض معترض: بأنَّ هذا الفرع ليس له دليل يركن إليه سوى أخبار الآحاد التي ثبت في محله عدم جواز الركون إليها، بداهة إنَّ التأسيس لأصول الاستنباط الفقهي مختلف في بعض قواعده عن التأسيس لأصول الاستنباط العقائدي.
يذهب الحيدري إلى أنَّ يقين السواد الأعظم من المكلفين في عموم الأمور العقدية لا يعدو كونه يقيناً بسيطاً لا يحمل جزماً بعدم الخلاف، وهذا ما نلحظه حتى عند بعض أهل المعرفة والعلم ممن ليس لهم دربة وتخصص في هذا المجال.
وهذا الأمر لا يحمل محذوراً عقائدياً أصلاً، إذ أنَّ الأمور العقدية ـ في رأي الحيدري ـ ليست على نسق واحد، فاجتهادات المجتهدين ـ في العقائد ـ يُشترط في الإيمان ببعضها يقيناً مركباً، كالإيمان بأصل وجود الإله وتوحيده وضرورة النبوة والإمامة والمعاد، لكن غير المتخصصين يُكتفى باليقين البسيط منهم بمثل هذه الأمور.
كما أنَّ النسق الآخر من الأمور العقدية يُكتفى في الإيمان بها بالظن، كما في الاعتقاد بالصراط وتطاير الكتب وتفاصيل البعث والنشور.
وعلى ضوء هذا التقسيم تقع مسؤولية التأسيس لمثل هذه الأبحاث على كاهل علم أصول الاستنباط العقائدي ـ الذي دعا الحيدري له ـ ، فهو الذي يحدد القواعد المنهجية التي تُحدد السبيل لاستنباط الأحكام العقائدية الصحيحة في ظل التداخل المنهجي غير المدروس.
إنَّ عملية الاجتهاد العقائدي هذه عملية تحتاج إلى مزيد من التخصص والدراسة والمنهجة؛ بغية استكشاف الحكم العقائدي الصحيح في مكانه المناسب، وتحديد الدور المرحلي وفقاً لذلك، وبغير ذلك تبقى المنطقة العقائدية عرضة للدخلاء والباطنيين.
لم يقبل المشهور جواز التقليد في أصول الدين، وحصروا الأمر فيها باجتهاد المكلف فقط، مع أنَّ الأعمَّ الأغلب من المكلفين ورثوا الإيمان بأصول دينهم من الآباء والأجداد عملياً كما أسلفنا، ولم يقصروا ذلك على أصول العقائد، بل قلدوا عملياً حتى نهاية تفاصيلها.
إنَّ تحييد عمل المكلف بالعودة إلى المتخصص العقائدي الجامع للشرائط أمر لا مفر منه؛ للحفاظ على سلامة الاعتقادات، وضمان أوبتها إلى مصادرها بشكل صحيح، وإغماض النظر عن هذا التحييد ينذر ببوادر كارثة معرفية لا تنجب سوى الاعتقادات الباطلة والنظريات المتزلزلة.
على أنَّ من الضروري الإشارة إلى أنَّ الاختلافات العقائدية بين المتخصصين التي تدور مدار فهم الدليل وصحة صدوره، لا تؤدي إلى الخروج من الدائرة، بل هي  على غرار الاختلافات الفقهية، عائدة للمبنى الأصولي العقائدي أو الفقهي الذي يُسار عليه، وقيمة أي اختلاف بقيمة الحجة العلمية التي تبرره.
إنَّ مبدأ عدم جواز التقليد في الأمور الاعتقادية أمرٌ خاطئ ـ في رأي الحيدري ـ ؛ إذ أنَّ جميع ما يُستدل به على ذ لك لا ينهض دليلاً يصح الاستناد إليه، فقد ناقش في تمامية جميع الأدلة المدعاة، ودعا في نهاية النقاش إلى التأصيل النظري لفكرة العودة إلى المتخصص الجامع للشرائط في الميدان العقائدي.
وقد تثار شبهة في البين مفادها: الاستفهام عن الدليل الذي قاد إلى الإيمان بجواز التقليد في هذه الأمور الاعتقادية؟
لكن الإجابة عن هذه الشبهة تغدو واضحة بعد معرفة وحدة مرتكزات هذا التجويز مع مرتكزات تجويز التقليد في الأمور الفقهية والعملية. نعم حصر المجوزون ذلك بالأمور العملية انطلاقاً من رؤيتهم الخاصة، وآمن الحيدري بالتعميم، انطلاقاً من رؤيته الخاصة أيضاً.
وعلى هذا جاءت مهمة العلامة الحيدري لتتحمل همَّ هذا التأسيس، معتمداً في أصول ذلك على المنهج المختار، فكانت انطلاقة مبكرة في حوزاتنا العربية في الوقت الراهن، وتفصيل الحديث في هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة مستأنفة.

صبر يوسف عليه السلام


لا شكّ أنّ الصبر إنّما يتحقّق إذا فرضنا أنّ هناك ابتلاءً أو امتحاناً يمرّ به الإنسان فيصبر عليه، ومن ثمّة ينبثق السؤال الآتي: ما هو الابتلاء الذي مرّ به يوسف عليه السلام وعلى ماذا صبر؟ يظهر للمتدبّر في قصّته التي عرضها القرآن أنّ هناك مجموعة من الابتلاءات مرّ بها هذا النبي الصدّيق، ويمكن تلخيصها بما يلي:

 إنّ يوسف عليه السلام كما تحدّثنا السورة عن مقاطع حياته كان ذلك الطفل الصغير الذي حوّلته أيدي المقادير وسلكته في سبل الابتلاءات. فمن كيد إخوته إلى رميه في غيابة الجبّ إلى بيعه بثمن بخس إلى أن وصل إلى بيت العزيز. ومن هنا أيضاً تبدأ مرحلة أُخرى من الابتلاء أشدّ وأصعب ممّا مرّ به سابقاً.
إلاّ أنّه في خضم هذه المحن والبلايا التي تواترت عليه كان مليء القلب بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر دائم ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يكن لينسى ما فعله به إخوته ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن الأسباب كافّة، من أنّه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية وسينبئ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
وهذا هو الذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة، وفي كلّ هذه الأحوال لم نره شكّ أو أظهر شيئاً من الجزع بل كان محبوراً بصنائع ربّه الجميلة لا يرى إلاّ خيراً ولا يواجه إلاّ جميلاً. وهذا ما حكته لنا آيات متعدّدة من السورة كقوله: (مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) وقوله: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْء) وقوله: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ) وقوله: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(1). فلم يكن يرى إلاّ ربّه ومالك أمره وهو الذي يسدّده كيف يشاء.
ولعلّ الاختبار الأصعب الذي مرّ به هو ما جرى من حكايته مع امرأة العزيز، فإنّ هذه القصّة تقرّر أنّ جميع الإمكانات الفردية وظروف الزمان والمكان التي تؤدّي إلى الانحراف قد توفّرت بيد يوسف عليه السلام على أحسن وجه ممكن.
فكان مع هذه المرأة في خلوة ـ كما تتصوّر هي ـ وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكانا في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية. ولم يكن مع يوسف ما يدفع به عن نفسه وينتصر به على هذه الأسباب القوية إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله، وبعبارة أُخرى ليس له إلاّ أن يتترّس في خندق المحبّة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع إصبع.
يقرّر العلاّمة الطباطبائي هذه الحال التي مرّ بها يوسف بهذا التعبير الرائع:
(فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدّته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها)(2). إلاّ أنّ كلّ شيء يضمحل ويتفتّت أمام المحبّة الإلهية التي يمتلكها أولياء الله المخلصون.
هذا على المستوى الفردي، أمّا على المستوى الاجتماعي فقد ابتلاه الله عزّ وجلّ بذلك المنصب الذي وصل إليه في دولة مصر آنذاك، وهو أن يكون أميناً على خزائن الدولة، ولا يخفى أنّ هذا المنصب المالي الكبير قد انزلق فيه كثير من الخلق وهلكت فيه أسماء كبيرة عندما وجدت نفسها على محكّ الاختبار المباشر المتمثّل بالسيطرة على الأموال الضخمة العائدة إلى خزائن الدول. إلاّ أنّ حال يوسف عليه السلام لم يكن كذلك، وهل ثمّة مكان للمال في قلبه الشريف لكي يميل إليه أو يطمع فيه؟! كلاّ.. بالتأكيد، بل وجدناه هو الذي جمع أرزاق الناس وادّخرها للسنين السبع الشداد التي ستستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بينهم وإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه من غير حيف أو ظلم. قال تعالى حكاية عنه عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(3) انظر كيف خصّ بالذكر صفتي (حفيظ) و (عليم) فإنّهما الصفتان اللازم وجودهما فيمن يتصدّى لهذا المقام الخطير.
 ________________
 (1) يوسف: 101.
(2) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج11، ص129.
(3) يوسف: 55.